الاستيطان الفكري والوجداني
محمد شبير
كشفت الحرب الأخيرة في الشرق الأوسط، كما كشفت مناسبات أخرى سابقة، حجم التفكك الهوياتي عند كثير من المغاربة، وهم في ذلك ضحايا احتلال فكري ووجداني يعصف بمحدداتهم الهوياتية التي تشكل أساس وجودهم واختلافهم وتفاعلهم مع محيطهم، وهذا هو السياق الذي يأتي فيه هذا المقال لمساءلة الهوية المغربية في علاقتها بالمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.
لنتواضع أولا أن الهوية لا تتحدد إلا بفعل الوجود، هذا الفعل الذي يقترن بالزمان والمكان والفاعل (الكائن البشري)، وإذا كان الأمر كذلك فإن المملكة المغربية أرض تتكلم الأمازيغية (طوبونيميا) رغم ما توالى عليها من أشكال الاستعمار ورياح التغريب والتعريب، ويفسر هذا الأمر بحدوث وقائع، بما فيها الوقائع اللسانية، تشهد على علاقة الإنسان بهذه الأرض، وهذه الطبونيميا هي أول جواز سفر امتلكه الإنسان للبصم على الانتماء وأشكال التصرف في المجال، أي إن هذه الأرض التي تتكلم الأمازيغية شاهدة على وقائع لسنية واجتماعية واقتصادية وسياسية لها علاقة بالإنسان الأمازيغي في ظروف تاريخية مختلفة.
يبدو الأمر واضحا الآن أن المملكة المغربية أمازيغية بشريا ولسانا وأرضا، لكنها في موضع التجاذب الهوياتي بفعل التأثيرات الأيديولوجية التحكمية الوافدة من الشرق الأوسط، لذلك لا بد من تفكيك مقولتي المشرق العربي والمغرب العربي اللتين تتحكمان في المجال الجغرافي لتجعل بلدان شمال إفريقيا ملحقات للمشرق العربي باسم المغرب العربي (لا أتحدث هنا عن المسروع السياسي الفاشل)، أي أن الأيديولوجية العربية (العروبة) فكر استيطاني يحتل عقول الأفراد والمؤسسات في شمال إفريقيا.
تتغذي الأيديولوجيا الاستيطانية العربية من الدين فتجعل الإسلام قرينا للعروبة، وهذا موضع إشكال كبير يؤزم هذا التحديد الهوياتي نفسه، خاضة أن الأتراك والفرس والأكراد والأمازيغ والفراعنة والحبشة وغيرهم من المسلمين ليسوا بالضرورة عربانا، لكن هذا الاختلاف قد تحول إلى آلة تقويضية للأفكار الأخرى الراغبة في تأسيس فكر حر على قاعدة هوياتية باسم الدولة الأمة/الشعب، في محاولة لدمج العروبة مع الإسلام تحت مسمى العروبة والإسلام، لكن هذا التحديد يحمل في طياته نفيه الذي يجعله متناقضا وإقصائيا، بحيث تتضمن المجتمعات العربية مجموعة من المتدينين بغير الاسلام، ويتضمن المحدد الديني (الاسلام) مجموعة من غير العرب، حتى أولئك الأوربيين والأمريكيين والصينيين والأفارقة المسلمين، كثر عددهم أو قلَّ، وهذه الأزمة في التحديد تؤكد حاجة شعوب إلى تأسيس دولها على أراضيها بمحدداتها الهوياتية الواضحة التي تحقق لها السيادة والتمايز وتقوي لديها الشعور بالانتماء لمواجهة التحديات في سبيل التطور.
يجد مجموعة من الأشخاص الذاتيين والمعنويين أنفسهم في حرج أمام هذه الأفكار، بحيث يرفضونها مدعين أن كل فكر قائم على أرض الهوية يتحول إلى حركة عنصرية، وهم في ذلك يؤسسون لفكر هوياتي على أرض أخرى غير أرضه، مما يعني أنهم يستوطنون فكريا في أرض ليست لذلك الفكر، وهي بمقاسهم عنصرية مركبة، وهذا جانب من الاستيطان الفكري الذي يصعب على حاملي مشروعه أن يتخلوا عنه لأنهم مسلحون إيديولوجيا، وهم جاحدون لما يتلقونه من أدلة تقنعهم في قرارة أنفسهم، لكنهم يعاكسون حتى أنفسهم في إقرار الحقيقة.
يوجد شكل آخر من الاستيطان الفكري، إنه بصيغة المفعولية والتأثر ذلك الدي يعاني منه مجموعة من الأفراد الذين تستحوذ عليهم آلة الخطاب الهيمني الذي تروج له وسائل الاعلام والمدرسة والعلاقات الدولية التي تجعل البلدان العربية جزءا من العالم العربي، وتركّز هذه الخلفية الدوارج المستعملة في شمال إفريقيا بشكل عام، وفي المملكة المغربية بشكل أدق، لأن هذا الانتماء اللسني إلى الدوارج قد تكرّس منذ زمن طويل بأنه انتماء إلى العربية أي إلى العروبة، ومما يغذي هذا الشعور ذلك الخلط الحاصل بين اللغة والدين في ذهن المغاربة منذ القديم، والحال أن الدوارج المغربية هي نتاج محاولة المغاربة (الأمازيغ) التحدث باللغة العربية، فكانت هذه المحاولات سببا في اختلاف النطق، وفي الاحتفاظ بالمعجم العربي الفصيح على شكالته، وتغذية هذا المعجم بالمعجم الأمازيغي، ونظرا لانفتاح المغرب على ثقافات أخرى تسربت ألفاظ من العبرية ومن اللغات الأوروبية والإفريقة إلى هذه الدوارج، وليست دوارج عربية ما دامت توقف الأعراب عاجزين على فهمها والتواصل بها ومعها، أما دراستها من حيث التركيب والذهنية التي أنتجتها، ومحاولة فهمها في أبعادها الثقافية والقيمية فسيؤكد قوة ارتباطها بالأمازيغية، عودة إلى الاستيطان الفكري فإن الأفراد المدافعين عن الارتباط بالمشرق يعانون من استيلاب فكري يجعلهم يفكرون خارج انتمائهم الجغرافي.
يعاني الوجدان المغربي هو الآخر من الاستيطان، فهو ممزق أيما ممزق، لقد تمت صياغة البنى النفسية للمجتمع المغربي بمواد متفجرة تم جمعها من ساحات الحروب التي عرفها الشرق الأوسط، فتحولت المشاعر إلى مواد قابلة للاشتعال وتنتظر في كل مرة الشعلة التي تأتيها من المشرق لتنفجر وتثور ضد بعضها البعض أو ضد أعداء الشرق الأوسط وإن كانوا من الشرق الأوسط نفسه، وهذا منزلق خطير جعل شخصيات ذاتية (أفراد) ومعنوية (تنظيمات) في المغرب غير قادرة على تقبل أشكال الاختلاف الداخلي انتصارا لأيديولوجيات مشرقية بشكل إطلاقي وثوقي، وتحولت هذه الشخصيات إلى كائنات عدائية توثر كل ما هو مشرقي على أي قضية تجابهها مهما كان حجمها، حتى أمن المملكة، وقد لعبت القضية الفلسطينية دورا أساسيا في تقوية هذا الشعور ، لانها تجمع بين الشعور الإنساني العام، والاستغلال السياسي لتقوية الانتماء إلى العروبة بتناقضاتها، والإسلام السياسي بتناقضاته.
خلاصة القول يجب على المغاربة أن يعرفوا بأنهم ينتمون إلى فضاء جغرافي تحت محددات سيادية تضمن لهم أن يشكلوا دولة مستقلة عن هذه الأيديولوجيات، لأنهم على قاعدة صلبة هي الهوية الامازيغية، وينفتحوا على جيرانهم في إطار اتفاقيات وعقود ومعاهدات وأشكال تعاون تحفظ لهم سيادتهم وعدم التبعية وتبادل المصالح، وغير ذلك فلا حق لأحد أن يمزق الوطن لصالح أيديولوجيات وافدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.